الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومن شهر رواية، فقدروه من مر حجج ومن مر دهر، ولما كان {أول يوم} يومًا وهو اسم زمان احتاجوا فيه إلى تقدير من تأسيس، ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير وأن تكون {من} تجر لفظة {أول} لأنها بمعنى البدأة كأنه قال من مبتدأ الأيام، وهي هاهنا تقوم المر في البيت المتقدم، وهي كما تقول جئت من قبلك ومن بعدك وأنت لا تدل بهاتين اللفظتين إلا على الزمن، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو، ومعنى {أن تقوم فيه} أي بصلاتك وعبادتك، وقرأ جمهور الناس {أن تقوم فيهِ فيهِ رجال} بكسر الهاء، وقرأ عبد الله بن زيد {أن تقوم فيه فيهُ} بضم الهاء الثانية على الأصل ويحسنه تجنب تكرار لفظ واحد، وقال قتادة وغيره: الضمير عائد على مسجد الرسول، والرجال جماعة الأنصار.وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «يا معشر الأنصار إني رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون؟» فقالوا يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء.قال القاضي أبو محمد: يريد الاستنجاء بالماء، ففعلنا نحن ذلك فلما جاء الإسلام لم ندعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تدعوه أبدًا»، وقال عبد الله بن سلام وغيره ما معناه: إن الضمير عائد على مسجد قباء والمراد بنو عمرو بن عوف.وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال المقالة المتقدمة لبني عمرو بن عوف والأول أكثر واختلف أهل العلم في الأفضل بين الاستنجاء بالماء أو بالحجارة فقيل هذا وقيل هذا، ورأت فرقة من أهل العلم الجمع بينهما فينقي بالحجارة ثم يتبع بالماء، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض علماء القيروان كانوا يتخذون في متوضياتهم أحجارًا في تراب ينقون بها، ثم يستنجون بالماء أخذًا بهذا القول.قال القاضي أبو محمد: وإنما يتصور الخلاف في البلا التي يمكن فيها أن تنقى الحجارة، وابن حبيب لا يجيز الاستنجاء بالحجارة حيث يوجد الماء، وهو قول شذ فيه، وقرأ جمور الناس {يتطهروا} وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش {يطهروا} بالإدغام، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {المتطهرين} بالتاء، وأسند الطبري عن عطاء أنه قال: أحدث قوم من أهل قباء الاستنجاء بالماء فنزلت الآية فيهم.وروي أن رسول الله صلة الله عليه وسلم قال: منهم عويم بن ساعدة ولم يسم أحد منهم غير عويم. اهـ.
وقيل: معناه مِن مَرِّ حِجج ومِن مَرِّ شهر.وفي هذا المسجد ثلاثة أقوال:أحدها: أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الذي فيه منبره وقبره.روى سهل بن سعد: أن رجلين اختلفا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد الرسول، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هو مسجدي هذا» وبه قال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب.والثاني: أنه مسجد قباء، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، وعروة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، ومقاتل.والثالث: أنه كل مسجد بني في المدينة، قاله محمد بن كعب.قوله تعالى: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} سبب نزولها أن رجالًا من أهل قباء كانوا يستنجون بالماء، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما الذي أثنى الله به عليكم؟» فقالوا: إنا نستنجي بالماء، فعلى هذا، المراد به الطهارة بالماء.وقال أبو العالية: أن يتطهروا من الذنوب. اهـ.
أي من مَرّ حجج ومن مَرّ دهر.وإنما دعا إلى هذا أن من أُصول النحويين أن {مِن} لا يُجرّ بها الأزمان، وإنما تُجَرّ الأزمان بمنذ.تقول ما رأيته منذ شهر أو سنةٍ أو يوم، ولا تقول: من شهر ولا من سنة ولا من يوم.فإذا وقعت في الكلام وهي يليها زمن فيقدّر مضمر يليق أن يُجرّ بمن؛ كما ذكرنا في تقدير البيت.ابن عطيّة.ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير، وأن تكون {من} تجر لفظة {أوّل} لأنها بمعنى البداءة؛ كأنه قال: من مبتدأ الأيام.السادسة قوله تعالى: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} أي بأن تقوم؛ فهو في موضع نصب.و{أَحقُّ} هو أفعل من الحق، وأفعل لا يدخل إلا بين شيئين مشتركين، لأحدهما في المعنى الذي اشتركا فيه مَزِيّة على الآخر؛ فمسجد الضّرار وإن كان باطلًا لا حقّ فيه، فقد اشتركا في الحق من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظن أن القيام فيه جائز للمسجدية؛ لكن أحد الاعتقادين باطل باطنًا عند الله، والآخر حق باطنًا وظاهرًا، ومثل هذا قوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] ومعلوم أن الخيرية من النار مبعودة، ولكنه جرى على اعتقاد كل فرقة أنها على خير وأن مصيرها إليه خير؛ إذ كل حزب بما لديهم فرحون.وليس هذا من قبيل: العسل أحلى من الخل؛ فإن العسل وإن كان حلوًا فكل شيء ملائم فهو حلو؛ ألا ترى أن من الناس من يقدّم الخل على العسل مفردًا بمفرد ومضافًا إلى غيره بمضاف.السابعة قوله تعالى: {فِيهِ} من قال: إن المسجد يراد به مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم فالهاء في {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} عائد إليه.و{فِيهِ رِجَالٌ} له أيضًا.ومن قال: إنه مسجد قباء، فالضمير في {فيه} عائد إليه على الخلاف المتقدّم.الثامنة أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحبّ الطهارة وآثر النظافة وهي مُروءة آدمية ووظيفة شرعية؛ وفي الترمذيّ عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: مُرْنَ أزواجكنّ أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم.
|